المحبة الالهية
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم، على ساقي المحبة من عين التسنيم إمام المحبين لله، وسيد المحبوبين سيدنا محمد.
المحبه الالهيه: هي عنوان كبير، كتب فيه الكاتبون، وذاق مذاقه المحبون ولكن مهما كتب فيه يبقى لغزاً لا يوضح رسمه وعماءً لا يفك طلسمه إلا من جرب فذاق وتواجد وعرف ومن عرف تحرق ومن تحرق لم يرتو بل ازداد لهيباً، وكما قيل :لا يعرف الوجد إلا من يكابده ولا الصبـابة إلا من يعانيها
فإن كنت تريد أن تتذوق هذا الشراب، فتعال أوضح لك هذا المسلك، ولكن أرجو أن تقبل نصحي قبل أن نبدأ : جرد عنك نفسك حتى يتوالى الفهم عليك، فإن الحب معنى، والدنيا والنفس من الحس، والحس والمعنى متباينان.
تعريف المحبة :كثرت تعاريف المحبة، حتى غصت بها كتب الرقائق والتصوف، وكل يعبر عما يجول في خلده تجاه محبوبه، شربها قوم فهاموا، وأسكرتهم فهبوا من وجودهم وقاموا، تركوا الدنيا لأهلها، وتركوا الآخرة لأهلها وأقبلوا على مولاهم.
هذا الشراب جعل ابن الفارض يشدو بأعذب تآليفه، هذا الشراب بالمجاهدة جدير، إنه يقبض ويبسط، ويطوي، وينشر، ويميت، ويحيي، ويفني، ويبقي، إنه يذهل، إنه يخبل، إنه يسكر من غير ذوق، فكيف بمن إمتلأت عروقه منه حتى أصبح عين محبوبه، إنه مزج لوصفك بوصفه، وأخلاقك بأخلاقه، وأفعالك بأفعاله، وأنوارك بأنواره، وأسماءك بأسماءه ونعتك بنعته، حتى تصير أنت العين، ويفر منك عالم البين- البعد- حتى تطلب الحجاب فلا تجده، نعم: أفضل تعريف للمحبة هو إسمهامح وبه أي حرفياًانمحى به وهكذا يمكن القول أن المحبة محو المحب لصفاته وإثبات المحبوب بذاته. أو أنها نار في القلب تحرق ما سوى المحبوب، أو أنها سر في قلب المحبوب إذا رسخ قطعك عن كل مصحوب .
ورحم الله سيدي أبي الحسنحين سئل عن المحبة ؟ فقال: المحبة أخذ من الله لقلب عبده عن كل شئ سواه. فترى النفس مائلة طائعة، والعقل متحصناً بمعرفته والروح مأخوذة في حضرته والسر مغموراً بمشاهدته، والعبد يستزيد فيزداد ويفاتح بما هو أعلى من لذيذ مناجاته فيكسى حلل التقريب على بساط القربة ويمس أبكار الحقائق وثيبات العلوم، فمن أجل ذلك قالوا: أولياء الله عرائس ولا يرى العرائس المجرمون.
هذا تعريفها: أما طريق تحصيلها إن أردت طلب الحقائق، فاسلك سلوك أرباب الذوق والطرائق فتش عن مرشد، فتش عن ساقٍ يسقيك من تسنيم المحبة ويوصل بعضك بكلك، وفرعك بأصلك، فالأصل منه وإن مال. ومن قال لك أن الدين ليس حباً ؟ فقل له أنت كاذب لأنه يريد أن يحول دينك إلى رياضات وحركات وإشارات ويفرغ عبادتك من روحها وهي المحبة، أطلب محبة الله من أهل الله، قل لهم أريد أن تذيقوني معنى الوصال وتسقوني كاسات الإتصال، فإن رأوا فيك الأهلية، أذاقوك معناها بنظراتهم، واعلم أن الشيخ الكامل يملؤك بنظرته حباً من رأسك إلى أخمص قدميك. عندها تشتري ما عندهم بروحك فقد قيل: من ذاق طعم شراب القوم يدريه ومن دراه غدا بالروح يشريه حقيقة المحبة لا يعبر عنها بالقيل والقال، بل بالذوق جعلنا الله وإياك ممن يذوقونها.لماذا نحب الله تعالى ؟قال( أحبوا الله لما يغزوكم من نعم وأحبوني بحب الله ) علّمنا رسول اللهمحبة الله، وبالتالي فهي واجبة علينا.
وأشار صلى اللهإلى سبب المحبة قائلاً (لما يغزوكم به من نعم ) معرفةً منه بتقصيرنا وقلة توجهنا إلى اللهوانخراطنا في سلك الشهوات والضلالات، فبصرنا بأن نحبه لغايات محسوسة مشاهدة عياناً، كالمال، والجمال، والصحة وغيرها.أما أهل الله وخاصته فإنهم ما أحبوا الله إلا لله، وليس طمعاً منهم بأن ينالوا شيئاً من وراء هذه المحبة، وهذا هو لب الموضوع (( أن تحب الله لله)) قالفي حديثه القدسي:
( لو لم أخلق الجنة والنار ألست أهلاً للعبادة ؟ ) فثمة فرق بين من يريد حضور الوليمة للوليمة ومن يريد حضور الوليمة ليفوز برؤية صاحب الوليمة: تركت التقدير لك.
- الحب دعوى تحتاج إلى بينة.
- الحب وجد وليس شوق، وصل وليس هجر، تأجج في الغفا لا سكون في رضاه، غياب
في الشهود، وشهود في الوجود.
- لا يقوم المحب حتى يقعد، ولا يسكن حتى يسكن فيه محبوبه.
- القناعة من المحبوب حرمان.
درجات المحبة:
للمحبة عشر درجات ذكرها العلماء:أولها: العلاقة: وسميت كذلك لتعلق القلب بالمحبوب.
ثانيها: الإرادة: وهو ميل القلب لمحبوبه وطلبه له.ثالثها: الصبابة: انصباب القلب إلى المحبوب بحيث لا يملكه صاحبه. كانصباب الماء في المنحدر.رابعها: الغرام: وهو الحب الازم للقلب الذي لايفارقه بل يلازمه ملازمة الغريم لغريمه.خامسها: الوداد: وهو صفد المحبة وخالصها ولهاً.سادسها: الشغف: وهو وصول الحب إلى شغاف القلب.سابعها: العشق: وهو الحب المفرط الذي يخاف على صاحبه منه كما قيل :
أحبكم وهلاكي في محبتكم*** كعابد النار يهواها وتحرقه
ثامنها: التتيم: وهو التعبد والتذلل. ومعنى تيمه الحب أي ذله لله وعبّده.
تاسعها: الخلة: وهي المحبة التي تخللت الروح والجسد والقلب حتى لم يبق موضع لغير المحبوب وقد انفرد بها سيد السادات محمد، وسيدنا إبراهيم الخليل.
هل يحبنا الله؟
- هل رأيت صانعاً يكره صنعته؟لا وإلا لما صنعها. كذلك حال اللهمع بني البشر.
- ورد في القرآن الكريميحبهم ويحبونه فانظر كيف قدم محبته لك، أيها العاصي الذي لا تنفك لحظة عن الخطأ، على محبتك.
- ورد في الحديث ( ابن آدم إني لك محب، فبحقي عليك كن لي محباً) ومن أنت حتى يسأل محبتك؟؟؟. انظر كيف أن كل شئ يطيب من لا شيء. تعلم مقدار محبته لك، وقيمتك عنده.
ألا ينبغي أن تكون المحبة متبادلة، ألا تحنّ نفسك عندما تسمع غيباً بأن أحداً ما يحبك ويريد منك لقاءه، فجرد عنك لباس الغفلة وانطلق إلى محبة المولى تحظى بخير الدارين.
سبل تحصيل المحبة: من هذه السبل:
- أن تقرأ القرآن الكريم بتدبر معانيه ومعرفة ما يريده منك.
- الإكثار من النوافل بعد الفرائض (وما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه).
- دوام الذكر اللساني والقلبي على كل حال، وهذا الذكر يكون أيضاً نتيجة للمحبة يقول أحدهم (من أحب شيئاً أكثر من ذكره).
- إيثار محابه على محابك عند غلبة الهوى، والتسنم إلى محابه وإن صعب المرتقى.
- معرفة الحق، فكيف تتطلع لمحبة من تجهل عنه أحواله.
وعموماً فإن محبة من تعرف كل أحواله تصبح على مر الأيام مسئمة، أما التطلع لمحبة مجهول الأحوال غير واردة عقلاً، لذلك فالكمال أن تحب من تعرف من أحواله شيئاً وتجهل أشياء فالمحب تحركه لذة ما يعرف لطلب ما لم يعرف، وهذا يخلق لديه لذة يهون من أجلها عذابه كما قال أحدهم :
عذاب الحب للعشاق عذب*** وأعظم لذة فيه اللقاءُ
وأكمل حالة الإنسان صدق*** وأفضل وصفه حاءٌ وباءُ
فاللهمعروف ظاهر بجلاله وجماله، ومن دعائه (في صحيح مسلم): "اللهم أنت الظاهر فلا يحجبك شيء"، ومع ذلك فهو باطن أشد البطون قلما تفهم عنه شئ بوجود نفسك. ومن أسماءه الظاهر والباطن، وهو له حضرات متجددة باستمرار كل يوم هو في شأن فأوجه النفاسة فيه لا تنتهي، ولا تزول وهذا باعث قوي لمحبته كما قيل:
أراك تزيد في عيني جمــالا*** وأعشق كل يوم منك حالا
تزيد مــــلاحة فأزيد عشقاً*** فحالي منك ينتقل انتقالاً
- مشاهدة بره وإحسانه وآلاءه ونعمه الباطنة والظاهرة فإنها داعية لمحبته.
- الخلوة به في وقت التجلي الإلهي ساعة السحر ووقت توزيع الأقوات الروحية قبيل المغرب.
- كثرة الإستغفار والندم على الذنوب لقولهإن الله يحب التوابين.
- كثرة متابعة السنة الشريفة قولاً، وفعلاً، وحالاً، حتى يتخلق بها الإنسان وتكون سلوكه اليومي لأنه باب الله وهو أقرب مخلوق إلى الله وبالتالي ينبغي عقلاً أن، نفهم أن، سلوكه وتصرفاته تقرب إلى الله وإلى محبته كما ورد في القرآنإن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله .
- مجالسة المحبين الصالحين الصادقين والتقاط أطايب ثمرات كلامهم، وقراءة كتباللطائف والرقائق والعمل بمقتضاها.
- مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله.
- فعل الطهارات الظاهرة والباطنة لقولهويحب المتطهرين.
أهذا كل شيء ؟
هذا ليس كل شيء، بل إن المعول عليه أن يجدك في حال يرضى بها عنك ويجد منك الخدمة وحفظ الحرمة للبشر والجوارح وأن يجد منك الميل الدائم بقلب هائم وهو شرط مهم جداً من أشراط المحبة، فالهوى تحركه الدواعي وتزيده وتنقصه الشدائد، أما المحبة فهي جبل لا يهتز أمام خطب مهما جل، عندها تأتي الرحمة، يأتي الاختصاص، تأتي الجذبة الإلهية التي تغيبك عن وجودك، فيزول عنك ما كنت تراه من حجب، فيزداد القرب وتزداد المحبة وتتمنى زوال البقية قتزول واحداً واحداً حتى تصبح في مقام الإقتراب والاختصاص، وهنا نقول:
وأبرح ما يكون الشوق يوماً***إذا دنت الخيام من الخيام
واعلم أن المحب لا يصل إلى مقام الفناء ما لم تنقطع الحجب بينه وبين محبوبه، حتى تزول كلها بالقرب الخالص، وآخر الحجب، رؤية المحب ذاته في مشاهدة محبوبه، إذ أن هذه الرؤية حجاب وشَوب في المشاهدة.فإن ارتفع ذلك بأن يغيب عن فنائه شاهد المحبوب على ما هو عليه، وإن لم يفنِ هذا الفناء شاهد محبوبه بقدر عقله وتصوره وإدراكه لا كما عليه حال المحبوب. وإن فني وصل إلى كمال المشاهدة وعندها يستهلك استهلاكاً تاماً ويود لو كان عين محبوبه كما قيل:
أعانقها و النفس بعد مشوقة*** إليها و هل بعد العناق تدان
وألثم فاها كي تزول حرارتي*** فيزداد ما ألقى من الرشفان
فيا لهف نفسي ليس يشفي غليلها***سوى أن ترى الروحان تمتزجان
هذا هو عين القرب وهذا هو المحب الأوحد الذي فاز بالدنيا بمحبوبه قبل الآخرة فما أنبله، وما أعزه، وما أشد ما لقي من مصائب حتى وصل إلى هذا المقام فهنيئاً له.
وكل من سواه يظن نفسه محب على قدر قدراته :
وكل يدعي و صلاً بليلى***وليلى لا تقر لهم بذاكا
وزبدة المقال أن للمحبة نوعان : كسبي يحصل بالعمل، ووهبي وهو هبة من الله لمن سبقت له الحسنى.