الحمد لله الذي علمنا ما لم نكن نعلم، وصلى الله على سيد الخلق محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد:
اعلموا - رحمكم الله – أن العناصر الاربعة سر من أسرار الله يطلع عليه من يشاء، وقد أوجدها الله تعالى ممتزجة كأنها كائن مادي واحد ، وكان هذا الكون كتلة واحدة كروية الشكل تتمازج فيه عناصره الاساسية الأربعة، وهي: [ النار، والهواء، والماء، والتراب ] ولم يكن بالامكان تمييز عنصر عن آخر، كما كان مستحيلا ان يتغلغل بها شعاع من نور أو وميض من ضياء، لانها كانت ممتزجة، وكذلك كان التراب ممزوجا بالعناصر الثلاثة الباقية، ولم يكن بالامكان ان يلمس اذ لم يكن كيانه ترابا نقيا، وكذلك الماء كان متغلغلا في هذه العناصر الأخرى، ومثله الهواء، وخلاصة القول كان الكون كله خليطا من هذه العناصر المختلفة .
أما عملية انفصال هذه العناصر الأربعة، فكانت عملية شاقة بالنسبة الى الطبيعة، أما بالنسبة الى الخالق فكانت سهلة جدا، قال تعالى:
{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء: 30] وقال:
{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11].
ولما انفصلت عن بعضها بأمر الله الخالق، أصبح كل عنصر قائما بذاته كائنا منفردا، له صفاته الخاصة وميزاته النوعية الطبيعية، وهي تحوي كل ما في الكون من امكانيات طبيعية. ولكل منها طبيعتان بارزتان، وهي أجسام بسيطة متحركة حركة دائمة في مركز الكون الى أقصى أقاصيه، وتدعى خفيفة وثقيلة بآن واحد وحركتها متأتية من قوة لا ارادية كامنة فيها بصورة طبيعية وهذه العناصر يمكنها ان توجد في أي مكان كان ولكن بتفاوت وهي كل ما يلي، التراب ثم الماء ثم الهواء، أما النار فانها لا توجد الا في مكانها الخاص وحيث توجد مادة قابلة للأحتراق. واليك دراسة كل عنصر بمفرده:
أ - النار : عنصر من العناصر الْأَرْبَعَة حَار يَابِس كرتها مماسة لسطح مقعر فلك الْقَمَر فَوق كرة الْهَوَاء.
وهي يابسة و مكونة من جهة ومتلفة من جهة ثانية، ولها تأثير عظيم في تماسك ذرات العناصر الثلاثة الباقية. لانها متصلة بجميعها اتصالا وثيقا فتشدها شدا وتكون منها شكلا كرويا مستديرا وهي جسم متماسك حار خفيف لطيف، نير بل ينير جميع الاجسام الباقية، وبما ان النار متصلة بجميع الاجسام فهي كامنة مستترة في جميعها بصورة لا تضر بها ولكن اذا اصابها من الخارج يتلفها وياتي عليها. وهي دائرة تدورها الافلاك سواء في داخل الارض أو في أجوائها أو في اجواء بقية الاجرام السماوية. وطبيعتها الحارة تجعلها ترتفع فوق جميع العناصر كلما امزجت بأي مادة كانت، وتتأثر من البرودة التي تداهمها فتنطفئ. وكلما انطفأت منها ذرة أفسحت مجالا لاضطرام ذرة جديدة، وهكذا حتى تنتهي المادة التي أصابتها.
وهناك نوع آخر من الاحراق يحدث عندما تتصل النار اللاهبة بجسم من الاجسام الارضية "كالحجارة والمعادن" والماء والهواء تشركها باضطرامها اشراكا كليا اذ تستحيل هذه الأجسام الى نار وتنيلها نفس لونها، وبعد فترة قصيرة تغادرها النار فتعود الى حالتها الطبيعية، وهكذا يحدث الانطفاء.
وللنار طبقة واحدة مشتعلة بالجو كما هي متصلة ببقية الاجسام الارضية ويبوسة النار هي يبوسة خاصة بحيث لا تلتصق في الاجسام ولكن ليست صعبة الاحتراق كالأرض
ب – الهواء : عنصر من العناصر الْأَرْبَعَة حَار رطب فَوق كرة المَاء وَتَحْت كرة النَّار.
وهو جسم رقيق نقي شفاف صاف بل أكثر لطفا ونقاء من العناصر الثلاثة الباقية، لذلك يخترقه البصر بدون مانع فينظر اجساما كثيرة سابحة فيه عن بعد، وللطفه لا يمنع من ان تمتزج به بقية العناصر وكأنها تستحيل الى طبيعته وان كانت مضادة لها. كبرودة الماء، وحرارة النار، فيقال عنه تارة باردا، وطورا حارا لانه يقبل هاتين الحالتين بسهولة ولياقة تامة. ويسمح لهذين الجسمين ان يمتزجا فيصبح معهما كأنهما معه كائن واحد، وهو أيضا يحيط بالعناصر احاطة تامة من جهاتها الست
والهواء حار رطب. وبهذا تعيش الكائنات الحية ولذلك تستنشقه كسبب أساسي لحياتها، وكل شيء ينتج عن الهواء حار ورطب، ومكون للحياة والصحة، وحافظ للأجناس الحية جميعها، وخير هذا الكون يحفظ الحياة فيه سالمة كاملة ولذلك سمي الهواء، خيرا وخيرا واستمرار البقاء
والبرهان على كون الهواء حارا هو
أولا: اننا عندما نريد جعل الماء بخارا أو هواء. نسخنه بوساطة الحرارة ونزيد في غليانه حتى يستحيل الى جسم بخاري يشبه الهواء تماما، ولو كان الهواء باردا لكان سائلا أو جامدا مثل الماء
ثانيا: لان الهواء رطب، ولو كان باردا لاصبح ماء، وهو ليس كذلك اذا هو حار رطب. والبرهان الاخير على كون الهواء رطبا سهولة قبوله كل شكل من الاشكال وسرعة زوالها عنه وسهولتها
وللهواء أربع طبقات الاولى ملتصقة بالارض، والثانية عالقة بالابخرة المتصاعدة من الارض وهذه طبقة باردة، والثالثة طبقة الهواء الحقيقي، والرابعة طبقة الهواء الممزوجة بالنار
واذا لامست طبقة الهواء الخارجية "العليا" مسام النار تكون كروية حقيقية، واذا لامست طبقته الداخلية السفلى الارض لا تكون بالحقيقية كروية بسبب الجبال والوديان والوهاد الكائنة على وجه الارض.
وله ثلاث حالات مختلفة بالنسبة الى الطبقات الثلاث المار ذكرها، الحالة الاولى تجرها على الارض وهو نقي شفاف، والثانية عند ارتفاعه قليلا تجد بعض الذرات الرملية عالقة فيه من الارض نفسها، وفي هذه الحالة يشبه الحصاة الشفافة متاثرا بعنصري التراب والماء. ولا يسمح لقوته وهدوئه ان يكون بعيدا عنهما، ولا ان يكونا قوته لئلا يكون تحتهما، وفي الحالة الثالثة، وهي الحالة العليا والاخيرة يحيط بجميع العناصر كجسم أصم قوي يحرسها لئلا تتبدد ذراتها وذلك بأمر الخالق
ج - الماء عنصر من العناصر الْأَرْبَعَة بارد رطب فوق الارض وتحت الهواء
الماء جسم أكثر رقة وميوعة ولينا من عنصر التراب، وأكثر كثافة ووزنا وتماسكا من الهواء. وهو رطب رقيق سائل شفاف نقي، وأكثر برودة من التراب، وضد اليبوسة الارضية. ولونه وطعمه ورائحته من طراز خاص
والماء طبيعيا بارد رطب وليس الماء سائلا بطبيعته بل هو جامد الا اذا قلت برودته بحرارة العناصر الحاضرة أهمها النار واذا ابتعد عنه ما يسخنه وهو حرارة الشمس فيعود الى طبيعته الاولى وهي التجمد. وهو شفاف بصورة أقل من الهواء وبالتالي له بعض اللون والبرهان على ذلك اننا نراه ثم اذا ملأنا قنينة زجاجية نقية ماء نقيا نجد شعاع الشمس يرجع عنه ولا يخترقه.أما الشكل العام للماء الكائن على سطح الارض فانه كروي مثل الارض، والدليل على ذلك رؤية الجالس في السفينة عند اقترابها الجبال، قمة الجبل أولا ثم ينجلي رويدا حتى سفوحه
ولرطوبة الماء حالتان، الاولى كونه ينال شكل الاناء الذي يحتويه، وحالما يغادره ذلك الشكل الراهن. والثانية سرعة تغلغله في دقائق التراب الامر الذي ينيله تماسكا في هذه الذرات فيجعل منها جسما متحدا متماسكا
الماء النقي عديم الطعم، وأما الماء الذي فيه ملوحة أو مرارة أو كبريت، فانه يكتسب ذلك من الاراضي التي يمر فيها أو يتجمع. ويوجد في بعض مناطق جزيرة صقلية ماء حامض الطعم بينما يوجد في مناطق أخرى ذو طعم مر اما المالح فيوجد منه في مناطق كثيرة. وللماء طبقة واحدة فقط في الكون الارضي
د - التراب عنصر من العناصر الْأَرْبَعَة بارد يابس تحت الماء
وهو جسم مضاد للحار الرطب، وفيه خاصية الانحلال والفناء، وهذا ضد الحياة والخير وهو الموت، والدليل على برودة التراب واضح يحس به الانسان، أما يبوسته فهي واضحة من كونه يتكيف بصعوبة، ويترك شكله الكائن هو فيه بصعوبة أيضا، ولذلك عندما تنفصل ذراته بعضها عن بعض لا تعود تتماسك وتتحد الا بواسطة الماء ورطوبته وذلك بعكس العناصر الثلاثة الباقية
وللتراب ثلاث طبقات: الاولى وهي القريبة من المركز العام للأرض، والثانية هي الطبقة الممتزجة بالماء، والثالثة بعضها ظاهرة وبعضها مغطى بمياه البحار.
ويرجع التاريخ أصل نظرية العناصر الأربع إلى العهد اليوناني، فان الفيلسوف إمبيدوقليس (490 / 430 ق.م) . يُعتبر أوّل من تصوّر أن الكون مركَّب من عناصر أربعة أساسية: التراب، الماء، الهواء و النار. كلُّ شيء مركَّب من هذه العناصر الأولية، لوحدها أو مشتركة، بكمِّية قليلة أو كبيرة.
و هذه العناصر تتحوَّل بفعل قوتَي التَّحاب و التّضاد. ففي حالة المحبة المطلقة، تُشكِّل هذه العناصر وحدةً متجانسة، أمَّا التّضاد فيفرقهم. و عندما تدخل هاتين القوَّتين في صراع، فإنّ امتزاج هذه العناصر ينتج عنه الأشياء المادِّية.
لقد ربط أفلاطون كلَّ عنصر بأشكال هندسية متصلّة فيما بينها بعددٍ من المثلَّثات. لكن إضافةَ أرسطو تُعتبر حاسمةً إذ أدخل مفهوم الطباع على نظرية العناصر. ذهب أرسطو إلى أنه ثمة أربع طباع أساسية: إثنان فاعلان (البرودة وهي: كَيْفيَّة من شَأْنهَا تَفْرِيق المتشاكلات وَجمع المتخالفات، و الحرارة وهي: كَيْفيَّة من شَأْنهَا تَفْرِيق المختلفات وَجمع المتشاكلات)، و إثنان منفعلان (اليبوسة وهي: كَيْفيَّة فِي الْجِسْم تَقْتَضِي صعوبة الشكل والتفرق والاتصال، و الرطوبة وهي: كَيْفيَّة تَقْتَضِي سهولة التشكل والتفرق والاتصال).
إنّ مزج طبع فاعل و طبع منفعل على مادّة موحَّدة يؤدِّي إلى ظهور واحد من العناصر الأربع. و هكذا، فإنَّ الأرض باردةٌ يابسة، الماء باردٌ رطب، الهواء حار رطب و النار حار يابس . اهـ
فالكون إذن مركب من عناصر أربع: التراب، الماء، الهواء و النار. كلُّ واحد من هذه العناصر له مكانه الخاص في الطبيعة، و يُمكنه أيضا أن يوجد في مكانٍ غير مكانه الأصلي، وعندما لا تكون هذه العناصر في مكانها الأصلي، فإنها تحاول الرجوع إليه، و هكذا يُمكن أن نفسِّر الظواهر التي نعتها القدماء بالظواهر المناخية (هذا المصطلح له مفهوم أوسع من المفهوم الذي نعرفه اليوم): فالمطر هو الماء الموجود في فضاء السماء و الذي يبحث عن النزول إلى مكانه الأصلي، المذنبات هي نار في فضاء السماء و تسعى للصعود إلى مكانها الأصلي...
انتهى ما وجد مكتوبا، والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد النبي الأمي وعلى آله الطاهرين وصحابته المرضيين وعلى جميع إخوانه ساداتنا من الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين وعلى آلهم وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا أبدا دائما إلى يوم الدين، آمين.