صعوبة التعرّف علی الاُستاذ الروحانيّ
لزوم ملازمة ومراقبة الشيخ الروحانيّ لمعرفته
وكما أنّ هناك شروطاً مُفترَضة في أُستاذ فقه الجوارح، بحيث لا يجوز الرجوع إليه قبل معرفة تحقّقها فيه، وبحيث يبطل من دونها العمل ؛ فإنّ الامر كذلك في فقه النفس والطبّ الروحانيّ، كما أنّ معرفة الاُستاذ في هذا الفنّ أصعب، وشرائطه أكثر.
خَلِيلَيَّ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ إلی الحِمَي كَثِيرٌ وَلَكِنْ وَاصِلُوهُ قَلِيلُ [19]
وهناك فرق آخر بين أُستاذ الفقه الجسمانيّ (الذي يُدعي بالفقيه) وبين أستاذ الفقه الروحانيّ (الذي يُدعي بالشيخ)، وهو أنّ طريق فقه الجوارح جليّ وظاهر، وأنّ قطّاع طريق الله فيه قليلون وظاهرون ؛ فيكفي أُستاذ هذا الفقه أن يشير إلی الطريق وأن يُشخّص المخادعين. خلافاً لطريق فقه النفس والطبّ الروحانيّ، حيث يختلف طريق كلّ شخص، ويتفاوت مرضه، وحيث يتعذّر معرفة مقدار المرض ومقدار الدواء، ويعسر معرفة مرض كلّ شخص ومعالجته، وحيث عقبات الطريق بلا حصر، وامتداد ارتفاعاته بلا انتهاء، وقطّاعه بلا عدد، ومعرفة لصوصه مستصعب مُشـكل.[الشرح] إذ يحصـل كثيراً أن يتلبّسـون بلـباس الدراويـش. فلا مناص إذن من مرافقة الاُستاذ والشيخ ومراقبته في جميع الاحوال، ومن عرض الحال عليه في كلّ عقبة.
ومن هنا نجد السـالكين يلازمـون الاُسـتاذ مدّة متمادية، ولا يفارقونه دقيقة واحدة.
واعلم أنّ حال فقه النفس كحال فقه الجوارح في أنّ تمام إيمان النفس موقوف علی تمام ظهور آثارها، وأنّ أثراً من آثارها لو أُهمل، فإنّ إيمان النفس سينقص بنفس القدر، فيعجز السالك ـ من ثمّ عن السير في العالم الذي يعلو عالمه.
فإن طوي السالك ـ بالعناية والتوفيق الربّانيّين، وبتعليم الشيخ الروحانيّ وجاهد كما ينبغي له المجاهدة، فإنّ النقصان الذي كان موجوداً في إسلامه وإيمانه الاصغرَين سيرتفع. فإن أخطأ آنذاك، بدا له خطأه بوضوح، وتجلّي أمامه الصراط المستقيم، وانتقل من الظنّ والتخمين إلی المشاهدة واليقين:
وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّي' يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ] الآية 99، من السورة 15: الحجر [، وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ] الآية 54، من السورة 24: النور [، وَالَّذِينَ جَـ'هَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ] الآية 69، من السورة 29: العنكبوت [، وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَـ'لِحًا ثُمَّ اهْتَدَي'[الشرح]. ] الآية 82، من السورة 20: طه.
قال أمير المؤمنين عليه السلام في وصف المجاهدين وغاية أحوالهم:
فَخَرَجَ مِنْ صِفَةِ العَمَي وَمُشَارَكَةِ أَهْلِ الهَوَي، وَصارَ مِنْ مَفَاتِيحِ أَبْوَابِ الهُدَي، وَمَغَالِيقِ أَبْوَابِ الرَّدَي، وَأَبْصَرَ طَرِيقَهُ وَسَلَكَ سَبِيلَهُ، وَعَرَفَ مَنَارَهُ وَقَطَعَ غِمَارَهُ. فَهُوَ مِنَ اليَقِينِ عَلَی مِثْلِ ضَوْءِ الشَّمْسِ. [22]
وقال أيضاً في وصفهم:
هَجَمَ بِهِمُ العِلْمُ عَلَی حَقِيقَةِ البَصِيرَةِ، وَبَاشَرُوا رُوحَ اليَقِينِ، وَاسْتَلاَنُوا مَا اسْتَوْعَرَهُ المُتْرَفُونَ، وَأَنِسُوا بِمَا اسْتَوْحَشَ مِنْهُ الجَاهِلُونَ، وَصَحِبُوا الدُّنْيَا بِأَبْدَانٍ أَرْوَاحُهَا مُعَلَّقَةٌ بِالمَحَلِّ الاَعْلَي....
اللهمّ إلاّ مَن قصّر في طريق الطلب، وتسامح في مرحلة من مراحله ؛ كمن قصّر في بذل الجهد خلال الفحص الاوّل الضروريّ ـ في الإسلام والإيمان الاصغرَين فاختار دليلاً ضالاّ، أو انحرف عن متابعة فقيهه وشيخه، أو قصّر في سعيه في معرفتهما، أو قصّر في إعطاء حظّ الجوارح أو النفس من الإيمان، أو أخطأ في ترتيب المعالجة، وسنذكر لك أُنموذجاً من ذلك.
فإذا فرغ الطالب السالك من هذه المراحل، وتغلّب علی حزب الشيطان والجهل، وورد عالَم الفتح والظفر، فسيحين زمن طيّه للمراحل اللاحقة، إذ إنّه طوي عالم الجسم ودخل في مُلك الروح. وحان زمن السفر الاعظم والسفر من عالم النفس والروح، والانتقال من دولة الملكوت إلی مملكة الجبروت واللاهوت وغيرها